الفصل الأول
لم يكن الشتاء قد استأذن باريس في أن يغادر باكرا هذا العام، رحل دون وداع مسلما أمانة المطر إلى ربيع المغرمين على الرغم من أن هؤلاء لا تمنعهم ظروف المناخ عن قضاء أوقات رومانسية وحالمة تحت الأغصان المزهرة في حدائق المدينة، رحل مخيف العجزة فسقطت إحدى الحجج التي تتوسلها بعض العاشقات ممن يتسلحن بالبرد لإستدرارعناق تائه من حبيب أصابه الملل.
عاشقات باريس، عابرات سبيل بمراكب حالمة فوق مياه "السين "، يختبرهن النهر فيطّهر بمياهه الصادقات في عشقهن، وينسج من صورهن أطياف الخيال الملونة على لوحة الأثير المسخّر لخدمة بهائه، أسماؤهن وجوه، وشفاههن صمت، وأجسادهن مثل زمهرير مضى زمن حراكه، ولا ينعشه شيء مثل صديق قديم يلاقيه على صفحة من أوراق كتابة الزمن بالذكريات.
والنهر كاتب يعرف كيف يميز بين مراكب يمتطيها الزيف، تلك التي لأصحابها أجساد تعوم على صفحته دون عناء لخفة مشاعرها، وبين أخرى تضج بصرخات المخاض، فولادة الحب لها مخاض يسكب التوائم الروحية الهائمة في قالب واحد ويحفظها في برزخ الخلود بالجسد .
ألامه مشاعرحقيقية تدفعها مشاعل تصطلي بشوق يحرق قلوب المحبين فلا تحتملها الأجساد، فيُسمع لها خوارٌ يشبه خرير ثلوج تذوب متأنقة بجمالها، متأبطة بإختيارها النور الذي قتلها.
أبناء السين الحقيقيون يُمنحون المتعة على مذبح قدسه ويتلقون قرابينه، فتنسحب أرواحهم إلى أعماق السعادة، ويسدلون ستائر تحجب الموت بقبلات لا تعرف إلا إستنشاق الحياة من ثغر الحبيب.
هي مدينة للرومانسية والعشق والأحلام، أما الواقع ففيه الحلم وفيه من اللهو والصخب والضياع ما يروي عطش عشاق هذا النوع من ارتشاف الحياة.
ومع أنه تعلق بالمدينة إلا أنها كانت تؤلمه، وتثير في نفسه الغَيرة والحزنَ، الغيرة من مدينة ليست من شيم المناضلين، ولكن مشاعر رياض الإنسانية المرهفة دفعته للتساؤل كلما رأى مواطنا باريسيا ، يتمتع بمدينته وبما فيها من إستقرار ومتع وطمأنينة :
" لماذا يحق للفرنسيين العيش في عاصمتهم، ولا يحق للمقدسيين العيش براحة بال في مدينتهم؟ .
لماذا لكل إنسان حق في وطن، ولا حق للفلسطيني في وطنه ؟
كان ينظر إلى الأطفال والشبان والمراهقين والشابات والمراهقات ويتسائل:
في الوقت الذي يعيش الباريسيون في مدينتهم دون أن ينكد عليهم محتل بمنع للتجول أو بحصار ، في نفس الوقت يعيش الفلسطيني في القدس الحصار والتضييق والإحتلال .
لاهم للعشاق في باريس إلا اللقاء ولا لقاء للعشاق في القدس بلا هم .
هم الجنود المنتشرين في احياء القدس العربية ليل نهار والسلاح ملقم وجاهز لقتل أي متمرد على الإحتلال والجرافات خلف الجنود على أهبة الهدم لأي منزل يختاره المحتل ليسفك حجارته وتاريخه على مذبح تزوير التاريخ بالحبر الذي يحمل لون دماء الفلسطينيين.
هل يخشى الباريسي الخروج ليلا ؟
إذاً لماذا على المقدسي أن يشعر على الدوام بالخوف من أسلحة وهراوات المحتلين ؟.
لماذا يحق للإسرائيلي في القدس الغربية أن يعيش حياته الطبيعية، ولا يعيش الفلسطيني إلا حياة النكد والقهر بفعل الإحتلال؟.
الدكتور رياض دغلس، الشاعر والأكاديمي الفلسطيني ،المقيم في باريس منذ عقد على التقريب، كان عاشقا لتلك المدينة، ولكنه بوصفه حراً وحراً وحراً كان حبه الأول للقدس العاصمة المحتلة لبلده المحتل.
وعلى الرغم من ذلك لم يستسلم للحنين ولا للغيرة، لأنه عرف أن حبيبته الجديدة والمؤقتة أي باريس، أعطته فرصة ليظهر حبه الأزلي والأول لإيلياء المقدسة، لأور سالم الكنعانية، لبيت المقدس العربية التي لم تكن أبدا في عرفه أورشاليم مع ما تعنيه الكلمة من قهره وإجباره على تناسي حقوقه في بلده، بدءا من تناسي حقه في عاصمة بلاده وانتهاء بكل حق له في فلسطين.
كان رياض مناضلاً ويعرف قيمة الفرص، وقد تمتع بما أعطته باريس من فرص للتعرف على ثقافات متعددة. تنوع جذور المقيمين في باريس و المهاجرين إليها للاستقرار أو للعمل أو للتعلم أو طلبا للأمان ،باريس هذه تُشعِر المراقب لأول وهلة وكأنه قد زار كل المناطقِ والبلادِ التي ينحدر منها من يسكنون هذه المدينة الكوزموبولتية.
لكل واحد من ساكنيها قصة، تحمل بعضا من ثقافة وتاريخ البلد أو المدينة التي أتى منها.
مثقفوا باريس بدوا لرياض وكأنهم عشاق يمرون على شفاه المدينة لتناول الغفران، هم يطلبون العفو، وهي تقدم لكل منهم قبلة بطعم البلاد التي أتى منها.
اختبر رياض هنا غير ثقافة وتعرف إلى غير حضارة، وكأنه زار غير قارة وعاش مع غير شعب.
معرفتهُ بكل تلك الثقافات جعلته يحترم ويعشق التنوع الموجود في بني البشر.
إختبر كثيرا من الصداقات، فأغناه كل صديق بما عنده من خير وشر، فازداد اقتناعا بأن الخير موجود في كل الشعوب والشر ايضا .
وتساءل :
لو أن ساكني القدس من كل الأعراق وفدوا إليها كما وفد المهاجرون إلى باريس طلبا للأمان أو سعيا للتغيير ... ألم يكن أهل القدس العرب ليستقبلوا الوافدين بالترحاب وبحسن الضيافة ؟
هل من أتى يحمل السلاح والدبابة والخديعة كمن أتى يحمل غصن الزيتون ؟
وهل المقيمون معا في باريس على تنوعهم أكثر قدرةً على التعايش من ساكني القدس ؟
الفرق بين المدينتين هو في الاختيار ...
باريس إختارت أن تصبح مدينة عالمية، والقدس أُجبرت على أن تذوب لمصلحة البديل المزيف والمغتصِب .
للمرأةِ الجميلةِ رغبات كما المدن، إن لاطفتها وسألتها وأحبتك وهامت بك تعطيك من نفسها بعضها أو كلها، أما المرأة المغتصبة فلا بد من أن تقاوم، ولا بد من أن تقاتل، ولا بد من أن تنتقم - لا لشيء - إلا لأن حقها في الإختيار قد سلبه مجرم جبار .
وفي القدس شعب الجبارين ،مهما طال النزال، لم ولن يستسلم .
لم تبخل باريس على رياض دغلس بما لديها، فقدمت له مكبر الصوت، وكاميرا التسجيل، وكتابا يتحدث بألف لغة عن قضيته.
ولم يتعب من كرمها الإعلامي والمعرفي، فإستخدم منابرها بأشد الطرق فاعلية ودوما في سبيل هدفه الوحيد أي تعريف العالم بالظلم الواقع على الشعب الفلسطيني.
كانت باريس هي البرية التي قصدها يوحنا القرن العشرين ليصرخ فيها طلبا للعدل .
ومع كل حجر ألقاه طفل في وجه الدبابات الصهيونية ،ثم سقط شهيدا، كانت الدماء تغلي في عروق رياض طلبا للثأر، ولكن بطريقة حضارية تعتمد على تعريف العالم بالحق الفلسطيني الذي يجعل من أطفال فلسطين جنود المقلاع في حرب داوود وجوليات الحديثة.
كسبت إسرائيل برأي رياض دغلس ما لا يمكن تصديقه من خلال إظهار نفسها كضحية للإرهاب العالمي مع العمليات الخارجية للمنظمات الفلسطينية، وجاء وقت الإنتقام من البروباغندا الإسرائيلية الكاذبة التي إجتاحت العالم منذ العام 1948 .
العالم كله رأى أطفال الإنتفاضة وهم يهتفون وأقسى ما في أيديهم حجر، بينما عدوهم مدجج بكل أنواح السلاح .
لم يعد جيش الكذابين فعالا في أوساط الرأي العام العالمي.
في أحد الحوارات بين رياض ومناضلين لا يوافقونه الرأي بخصوص السبل الأنجع لدعم الشعب الفلسطيني قال :
" للمرة الأولى صار من لا يعرف شيئا عن قضيتنا يحفظ عن ظهر قلب أسماء القرى والحواجز التي على مداخلها.
إنها قوة المعرفة، وأخشى ما أخشاه أن تفهم إسرائيل خطر إنكشافها للعالم على حقيقتها العنصرية، فتُخرج لنا من جعبتها بعض العملاء، كي ينفذوا بإسمنا عملا يعيدنا، في نظر الراي العام الدولي، إلى مجموعة من الإرهابيين الهمج الذي يرقصون فرحا لموت الآخرين"
سـألوه بتأفف : هل علينا السكوت وأطفالنا يواجهون الدبابة بالحجر ؟
وأجابهم :
كم عربي في باريس وكم عربي في فرنسا ؟
فلنبدأ الآن بكسب الأصدقاء والمتعاطفين ببركة تلك التضحيات التي تنير للبشرية سبل الطريق إلى معرفة الجناة على حقيقتهم، فمعرفة العالم بحقيقة إسرائيل أشد خطرا عليها من كل سلاح قد يمتلكه الشعب الفلسطيني، لأن شرايين الحياة التي تضخ إليها أسباب البقاء متعلقة بموقف الناخبين في الغرب.
كان يكلم الكثيرين ولكنه لم ينتظر أحدا ليسير قدما في الطريق الذي حدده لنفسه، فقد عزم على تنفيذ مهمته بإعلان الثورة على جهل الغربيين تجاه ما يجري من إجرام ضد الشعب الفلسطيني من قبل إسرائيل، وعقد العزم على النضال ما أمكنه لإيصال الصورة الحقيقية عن الصراع ، دوافعا وأسبابا وتاريخا ونتائج وأهداف .
كان يحمل هم فلسطين، وكأن لا أحد يهتم بها إلا هو .
الفصل الثاني: ساحة تروكاديرو 1988:
لم يكونوا كثرة، ولكن ضجيجهم كان يملأ عنان السماء، إنها البداية فقط، المتظاهرون لا زالوا يتوافدون إلى الساحة المجاورة لدار المسرح الكلاسيكي المطلة على باحة يتوسطها
" تور أيفل " الشامخ متكئا في غروره على الخيال الذي تخلقه فكرة زيارة رمز المدينة .
أراد المنظمون أن يستخدموا برج أيفل، لكي يكون في خلفية الصور التي ستلتقطها عدسات المصورين والتلفاز، لكي يصبح تور ايفل رمزا للمطالبة بحرية الشعب الفلسطيني، فدعوا للتظاهر في ساحة التروكاديرو.
أصحاب الدعوة إلى التظاهر كثيرون، من جمعيات الجاليات العربية في باريس، إلى منظمات ثورية يسارية صغيرة ، إلى هيئات طلابية ولجان دفاع عن حقوق الإنسان، ولكن اين
" الأحزاب الفرنسية " ؟ سأل رياض أحد مرافقيه الفرنسيين من زملائه الأساتذة في الجامعة فأجاب الأخير :
ربما وجدوا من المناسب لأمن إسرائيل والعالم الحر أن يحطم الجنود الإسرائيليين عظام المتظاهرين الفلسطينيين العزل .
مع الوقت كبرت التظاهرة وكثر المشاركون، وعلى وقع الهتافات ، ووسط عجقة السير التي كانت الشرطة تنظمها بصعوبة، دخلت من الجهة اليمنى للساحة مسيرة صغيرة تضم مئات المشاركين الجدد وعلى رأسهم إمرأة بملامح تماثل العارضات لا المناضلات، كانت ميا تحمل علم فلسطين في يدها وتلبس تي شيرت عليه صورة طفل يقف في مواجهة دبابة ويهددها بحجر ، وفوق التي شيرت كانت المرأة الشابة تلبس " الفيلد " الأخضر العسكري وتضع على رأسها
" بيريه " غيفارا وحول عنقها كوفية فلسطينية حمراء .
مرت ميا ديغال بالقرب من رياض مخترقة المتظاهرين الموجودين قبلها في المكان، نظرت إليه بشاربه الخفيف وملامحه الجميلة وطوله الفارع، ركزت نظرها على عينيه الهادئتين، ثم تبسمت له عن قرب، و حين أصبحا وجها لوجه فاجأته بصرخة من مكبر صوت تحمله:
" رابين أساسان ،رابين أساسان ....إسرائيل أساسان ...إسرائيل أساسان "
أزعجته قوة الصوت لا نبرة الصدق في موجاته، تابعها بنظراته بين فينة وأخرى .
قال له صديقه : لقد تقصدت تلك الرفيقة إزعاجك لتلفت نظرك، ومع أنك لست وسيما إلا أنه يبدو أنّ ملامحك الفلسطينية أثارت اهتمامها.
رسم رياض على شفتيه بسمة ماكرة وقال : كلود ..أين نحن من هذا الكلام الآن ؟
كلود: كنت أمزح لا تغضب ، نسيت أنك مثل عرفات متزوج من القضية .
ضحك رياض مرة أخرى بمكر أكبر وقرب شفتيه من أذن الصديق وقال :
تزوج عرفات القضية فعلا.... ولكن يا خوفي من خيانة زوجية يا صديقي.
تتابع اعتلاء الخطباء للمنبر ثم جاء دور رياض .
صعد إلى الحافة – المنبر، ناوله أحدهم مكبر الصوت في يده، لم يفتح ورقة ولم يفكر كثيرا فيما سيقول، صمت لثوانٍ ثم قال بفرنسية جميلة:
خذوا يدي وحطموا عظامي أنا
ولكن طفلي هذا اتركوه ..
طفلي المضروب بعصاكم ...
أرجوكم لا تقتلوه
طفلي المهشمة عظامه
....لا تسحقوه
قلبي دام من ضرباتكم
أما كفاكم ؟؟
لا تستضعفوه
لا تنسفوا بيته
لا تجبروه
على قهر الموت بالموت
لا ترغموه
هو يحلم بأن يكون حرا ...
بقراره ...... بحبه
بعشقه
لا تشاركوه ..
لا تعطوه خيمة ولكن ...
اتركوه يبني بيتا
انتم دمرتموه
كم سيطول صبر المقتول
والمسجون
آه لو تعرفوه
آه لو تفهموه
هذه الارض
هذه سماءنا ... ...
في بيت الله كان سلام قبلكم ...
سلام الله بقهرنا لا
لن تنالوه
تعالت أصوات الاستحسان من المحتشدين تطالبه بالمزيد، وألقى رياض الكثير من قصائده المشهورة .
بعد نزوله عن حافة الساحة (المنبر) قفزت " ميا " برشاقة إلى مكان وقوف الخطباء،
وكانت لا تزال تحمل المكبر بيدها، بدأت تهتف للحشد فاشتعلت أصوات المتظاهرين بالهتاف لفلسطين.
الفصل الثالث
أسرع ورفاقه الخطى على السلالم الكهربائية فقد سمعوا صوت القطار يصل إلى الرصيف الذي يقصدونه..
نظر إلى الخلف بعد أن تجاوزها، رائحة عرقها دلته عليها، لن ينسى تلك الرائحة أبدا، لم تكن رائحة عطر ولا آثارا بائتة لكريم معطر، ولا هي مسك البخور وعنبره، كانت لجسدها رائحة النضال والتمرد و الحنان، اشتم تلك الرائحة لحظة مرت بقربه وهتفت بالمكبر .
كانا يومها يتمثلان الحياة البرية لكائنين بدائيين، و يبعثان بالرسائل الغريزية إلى بعضهما البعض مطلقـَين عطرا طبيعيا للجسد فيه دعوة للتكاثر. هكذا جذبته، وهكذا لفت نظرها منذ اللقاء الأول لعينيها بعينيه.
وقف ينتظر وصولها إلى محاذاته، وأسرعت هي في خطاها معينة السلم الكهربائي على حملها إليه.
أمسك بيدها مصافحا على عادة العرب غير مقبل لخدها على عادة الفرنسيين، ولكنها لم تترك يده تفلت منها، بل وجدها بعد المصافحة تضع أصابعها بين أصابع يده، وتواطأ هو مع رغبتها التي تراوده عن ملمسه :
" أنا سعيد بحماسك لقضية فلسطين على الرغم من صمم أذني من صراخك "
ميا: إذا أنت هو الشهير رياض دغلس ؟ أنا ميا ديغال.....
لكنتك ليست فرنسية ؟ سألها رياض فأجابت :
أنا فرنسية مولودة في إسرائيل، وحين تقدمت بطلب لجوء إلى مخيم جنين رفض طلبي، فاضررت إلى الهجرة إلى فرنسا واستعدت هويتي الفرنسية فوالداي إسرائيليان من أصل مغربي - فرنسي .
كان مشغولا في اختيار كلماته التي سيحادثها بها، ولكن بسمة سرقت ألوانها من لون عينيها ارتسمت على شفاهه، ثم تحولت إلى ضحكة مجلجلة شاركته فيها، هو ضحك الفرح الطفولي الذي يبدو للآخرين بلا سبب، بينما تنشغل آلاف الأفكار الجميلة بدغدغة أرواح الأطفال وتتنزع ضحكاتهم.
لم يبدو عليه التعجب لكونها يهودية، فهو كان قد تعود على مصادفة يهود معادين لإسرائيل ولجرائمها، مثلما تعود أيضا على مصادفة عرب وفلسطينيين تبلغ سرعة ارتكاب الخيانة عندهم سرعة الضوء .
رياض: تسكنين في... ؟
ميا : لا ديفانس ، هل طريقنا واحد ؟
رياض : أوه كلا ...ابدا ..أنا اسكن في الضواحي الشمالية ولكن لماذا لا نجعل لحظات التعارف تمتد أكثر ؟ سأرافقك إلى لا ديفانس، أعرف مقهى جميلا في شارع سلفادور اللندي في تلك المنطقة ما رأيك ؟
نظرت إليه نظرة المرأة إلى الرجل لا نظرة مناضلة إلى رفيق النضال، رأت في عينيه الرجل الذي تحن أحلامها إليه، ورأى فيها الغريبة التي مدت يدها لشعبه فأراد أن يصافح تلك اليد ويشد عليها ولو بفنجان قهوة .
هكذا حدث نفسه ليبرر إندفاعه العاطفي الغريزي نحوها ، ابتسم وابتسمت ثم قالت :
ميا : أليس لديك أصدقاء ترافقهم في رحلتهم ؟
نظر إلى رفاقه وبينهم نساء عربيات، أو على الأقل ذاك ما كانت توحي به ملامحهن فقال :
رياض: يعرفون طريقهم جيدا لا تقلقي، المهم آلا يثير موعدنا الغرامي الأول غيرة حبيبك .
قال ذلك وعاد للالتفات إلى اصدقائه المنتظرين على بعد خطوات، أشار إليهم مودعا فبادلوه الإشارة بتحية وداع وابتعدوا .
عاد لينظر في عينيها الصافيتين كمياه المتوسط في فصل ربيع دافئ، لاحظ خديها المتوردين كتفاح الجليل الملوح بلفحات الشمس العربية الفلسطينية، فتمنى في نفسه أن يعود طفلا من أولئك المسموح لهم بتقبيل الغريبات فور لقائهن لصغر سنهم .
ابتسمت لنظرته وبادلته التأمل في مفاتنه الجسدية كما كان يفعل هو في تأمله لها، أحست في تلك الأثناء بمعنى أن ترى القطة المستوحشة قطا ذكرا في موسم التزاوج، ورأت في عينيه تلك الدعوة إلى التفاحة الآثمة التي قدمتها حواء لآدم، ولكن رياض هنا كان يستعمل في عينيه المجاز والتشبيه. كان كل ذلك يحدث بينهما وفي نفس الوقت كان رياض يسترق بعض ومضات التفكير العقلاني فيما هو مقدم عليه، قلـّبها في هواه على كل الإحتمالات وانتهى بترك مشاعره تأخذ مداها الطبيعي، ولم يحاول إيقاف إنزلاقه السريع في مهاوي العاطفة التي قدحت شرارتها نبراتها المتحمسة لفلسطين، هكذا هو رياض، كل شيء يبدأ من فلسطين وكل شيء ينتهي عندها. حتى الحب والهيام، لو لم تكن ميا مناضلة وثائرة كما بدت له في تروكاديرو لما أثارته نظراتها ولما لفتت نظره أبدا.
أما هي ، فقد اعترفت لنفسها بأنها معجبة به مما سمعت عنه ومما قرأته له، كانت تحس وكأنها تعرف صوته قبل أن تسمعه، وتعودت على مزاجه من دواووينه التي قرأتها، لذا قالت في نفسها " لقد أحببته منذ سنوات منذ قرأت له أول قصيدة وأول مقال .
" ليس لدي حبيب " قالت وابتسمت عيناها قبل ثغرها كمن تشير إلى الآخر أن أقدم ولا تتأخر ثم تابعت ويدها لا تزال في يده:
ولكني أبدو اليوم مثل قطة تبحث عن زوج في شهرفبراير أليس كذلك؟
ضحك ثم حاول سحب يده من يدها فشدت عليها ومنعته فرضخ وقال:
وهل انا القط المستهدف؟
أحست بالخجل من نفسها فتركت يده ولكنه لم يسحبها بل غير طريقة إمساكه بها :
ميا: أنا امرأة راشدة وأعرف أنه من المعيب التصرف كمراهقة ولكني اليوم متعبة ومرهقة وفرحة في الوقت نفسه لأني حظيت بك أخيرا، لذا لا يهمني الشكليات ، ولن أركن إلى التمثيل عليك بأني لا أكن لك إعجابا شديدا بسبب كتاباتك وبسبب ما تقوله الصحافة عنك وعن تأثيرك المتزايد على الجامعيين وعلى المثقفين.
قال لها :
اسمعي أيتها القطة المفترسة، آخر مرة تحرشت فيها بفتاة كانت منذ زمن طويل، فما رأيك أن نكافيء أنفسنا الليلة بأن نتعرف على بعضنا البعض ؟
أطلقت ضحكة مدوية وقالت:
أظننا سنتفق مادمت تعرف كيف ترمي قناع الوقار وقت الحاجة، نعم لا بد من أننا سنتفق.
كانت فعلا خالية البال عاطفيا، فعملها في الصحافة وفي التعليم الاكاديمي لم يتركا لها الكثير من الوقت لتلتقي مع رجل يثير في مشاعرها الحميمة الرغبة بالإنطلاق . كانت طويلة هي الشهور التي لم تقم فيها علاقة جسدية مع أحد ما، وبعيدة جدا تلك الأيام التي كانت لها فيها قصة عاطفية ملتهبة.
أمسكت بذراعه وحرّكته ليمشي دون أن تتكلم كما يحرك البخار المحركات بلمس مشاعرها، فقد جعلتها نظراته الهوجاء والمشتعلة تنسى بأي لغة يجب أن تكلمه .
مشيا سويا واختفيا بين آلاف العابرين في أنفاق المحطة، ولكن عطرٌ للحب عبق في فضاء المكان، وحامت فوق رؤوس المسافرين اسراب من طيور الحب ولدت كسراب لا يراه إلا المختارون من روحي ميا ورياض، وبقيت بعد رحيلهما تزين المكان....
كان المراقب لميا ورياض وهما جالسان على مقعدين متقابلين في عربة المترو المنطلقة كسهم، لو دقق في فضاء الهالة السحرية من حول الوجود الذي يسكنانه للاحظ كتابات بألف لغة ولغة تنتشر في الجو، لغة تقول أحرفها وتنطق بأن حبا وعشقا رائعا ولد في تلك اللحظة، وفي تلك المساحة التي تنعدم منها أي إمكانية لرؤية السماء والنجوم ، في تلك الأجواء السوريالية حولت عواطف رياض وميا سقف المترو إلى سماء بآلاف الشموس و ملايين النجوم، و أشرقت شمس حياة مشتركة بين قلبين لم يألفا من قبل ذلك النوع من الضعف العاطفي تجاه فرد لا تربطهم به معرفة عميقة ... وما الضير ؟
سؤال واحد عكر صفو تلك الجلسة :
رياض: ماذا لو كنت جاسوسة للموساد أيتها الفاتنة ؟
الفصل الرابع :
لا يتعمد السارق أن يقتل وهو ينفذ عملية سطو مسلح ، إلا إن وقف المقتول في طريق هربه أو حاول منعه من تحقيق هدفه . السرقة هي الهدف ، أما القتل فليس هو الوسيلة ولكن إن احتاج الهدف إلى القتل ليتحقق فسيكون القتل هو الوسيلة .
شعب أراد أن يعود إلى ارضه المقدسة وحاول الهمجيون منعه من ذلك فوقعت الحرب وهزموا وانتصرنا فأين الجريمة في ذلك ؟
كل يعرف صلاة استمر تردادها لآلاف الأعوام :
" العام القادم في أوروشاليم "
" نعم قاتلنا و قتلنا من وقف بوجهنا ليمنع عنا سبيل أرض الأباء والأجداد، أرض أعطاها الرب لنسل إبراهيم ، من مات فإنما دفن نفسه بنفسه "
هذا الكلام ومثله الكثير مما يشبهه قيل للطفلة والمراهقة والشابة ميا ديغال في المدرسة وفي النادي وفي المنزل، سمعته من الأهل وسمعته من الأصدقاء و ومن الأقارب و سمعته في الكنيس .
أما بعد يوم السادس عشر من أيلول 1982 ، فلم يعد هذا الكلام مقنعا لها.
تسائلت بينها وبين نفسها:
إن كان القتل وتشريد العرب البرابرة قد تم لمحاولتهم الاعتداء على الدولة الفتية في الثمانية والأربعين، وإن كان عبد الناصر دفع ثمن تحضيره لمهاجمة إسرائيل في العام 1967 بهدف رميها في البحر، فسبقته الأخيرة واحتلت سيناء والقدس والضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة ، فما ذنب أهالي صبرا وشاتيلا ليقتلوا ببشاعة؟
لقد سمعت ميا من رفاق فلسطينيين في الجامعة عن مجزرة دير ياسين، ولكنها لم تدقق في صحتها، وسمعت عن إجرام الشتيرن في الاربعينيات ولكنها اعتقدت بأنها جزء شاذ من مجمعات مقاتلة شكلت جيش الدفاع !
أما مجزرة صبرا وشاتيلا في العام أثنين وثمانين، فقد فعل الإعلام الذي نقل صور المجزرة فعله في نفوس أصحاب القلوب الرحيمة وميا منهم، فوصلت رائحة الجثث المشوهة إلى أنوفهم ، تلك المجزرة قلبت كيان وعقل ميا ديغال رأسا على عقب .
" سألت نفسي في ذلك الوقت، كيف يمكن أن تكون إسرائيل دولة أخلاقية ومحقة فيما فعلته في الماضي ثم تقوم بمجزرة مروعة كمجزرة صبرا وشاتيلا "
قالت لرياض في واحدة من جلساتهم الحميمة :
لم أكتفِ كما فعل الكثيرون بالتظاهر للمطالبة بالتحقيق في مسؤولية جيش إسرائيل عن تلك الجريمة ضد الإنسانية التي فاقت خيال كل إنسان . كنت بحاجة لدليل يعيد لي إيماني بدولة إسرائيل، دليل يثبت بأنها ليست آلة ظلم وقتل للآخرين، فقط لأنهم ليسوا يهودا .
شاركت في التظاهرة التكفيرية عن المجزرة التي طالبت بلجنة تحقيق تحدد مسؤولية وزير الدفاع ارييل شارون ورئيس الوزراء مناحم بيغن ورئيس الاركان عن المجزرة .
مظاهرة تكفيرية لأن معظم من شاركوا فيها بقوا على إيمانهم بالمواطنة في الدولة، اما أنا، وبعد أن أعدت دراسة التاريخ الإسرائيلي منذ بداية القرن العشرين، فقد تأكدت من أنّ المجزرة لم تكن أمرا عابرا في تلك اللحظة التاريخية، بل إنّ المجازر هي الوسيلة الوحيدة التي حققت لإسرائيل ما ارادته من تطهير عرقي بحق الفلسطينيين، حتى هرتزل تحدث عن أخلاقية القيام ببعض الأمور الضرورية لدفع السكان المحليين إلى خارج دولة إسرائيل .
هدف إسرائيل هو الحصول على الأرض، وكان على الارض شعب ، فقامت عن سابق تصور وتصميم بتنفيذ المجازر بحق المدنيين العرب في حرب الثمانية والاربعين، وحرصت على التأكد من انتشار خبر المجازر بشكل مضخم ، فهرب أهل الأرض من الفلسطينيين للنجاة بحياتهم . هكذا عرفت بأني مواطنة في دولة، لكل واحد من رعاياها نصيب في إرث الدماء الفلسطينية التي سالت في سبيل السيطرة على الارض .
إذ كيف يمكن لدولة ديمقراطية بنت جيشها من المتطوعين العقائديين المتعلمين والمثقفين أن تسمح ( وتسهل ) لوحوش بشرية لكي تدخل إلى مخيمات لم يكن يسكنها وقتها إلا العزل والنساء والأطفال ، فيذبحون منهم ثلاثة آلاف ويزيد بدم بارد وبمساعدة كشافات الجيش الإسرائيلية التي أنارت لهم المكان، وحولته إلى نهار مستمر لثلاثة ايام من القتل المستمر .
يومها (أضافت ميا لرياض) :
بدأت البحث من جديد عن أخلاقية دولة إسرائيل، ليس لأدينها بل لأبرئها مما ظننته غلطة تاريخية غير مقصودة، لا تليق بالدعاية التي تربينا عليها بصفتنا مواطنين في دولة ديمقراطية.
اعدت قراءة التاريخ اليهودي من إبراهيم إلى جابوتنسكي وبيغن ،إنتهاء برابين وشامير، مرورا بالأسباب الموجبة لتأسيس الدولة في أرض الأجداد .
أمر واحد لفتني في معناه، أوغندا ....ثلاث سنوات من عمر الحركة الصهيونية كانت خلالها إسرائيل مشروعا ينبغي القيام بتنفيذه في أوغندا!
،أوغندا في إفريقيا وليس لليهود فيها إدعاء ديني .
ثلاث سنوات وكل الجهود الصهيونية في العالم منصبة على تحقيق حلم الدولة الصهيونية والوطن القومي لليهود في أوغندا .
فجأة عادت السياسة البريطانية لتجد لنفسها مصلحة في وطن قومي يهودي بقيادة صهيونية في فلسطين .
أضافت ميا لرياض:
وجدت نفسي أبحث وأبحث وبدأت قناعاتي الدينية والقومية السياسية والروحية تتفكك واحدة بعد الأخرى .
كنت أعتز كثيرا وأفتخر بأني من نسل إبراهيم المختارين، ولكني أعدت قراءة العدد التوراتي
" وسجد إبراهيم لأهل الأرض الحثيين (الفلسطينيين) حين أتى إلى كنعان مهاجرا من أور الكلدانية."
جدنا سجد شكراً لأهل الارض أما نحن فقتلناهم وطردناهم منها .
كنت أملك شعوراً رائعا بالغرور ، شعوراً يملأني لذة أنني يهودية عاد أهلها من المغرب إلى ارض الأجداد، ولم يعد هناك من إمكانية لإضطهادنا كما فعل النازي، وإكتشفت بالبحث أن أجدادي لجأوا إلى الأمان في المغرب الإسلامي هربا من الأندلس الصليبية بعد سقوط الإمارات الإسلامية فيها .
من قام بالمحرقة هم النازيون الأوروبيون ومن قتل أجدادي في الأندلس هم الأوروبيون ومن سحق اليهود في روسيا هم الأوروبيون وسألت نفسي:
" لماذا هم اصدقائي الآن، والعرب الذين هرب أجدادي معهم من إسبانيا ليعيشوا سويا في الدولة العربية المغربية هم أعدائي اليوم "
وحصلت على الجواب :
ربما كانت الحاجة إلى دولة يهودية تنطلق من شعور اليهود بعدم الأمان نتيجة لكراهية الأروبيين لهم، ولم يكن الأمر موضوعا دينيا أو قوميا .
لهذا لم يكن يأبه مؤسسو الحركة الصهيونية بالمكان ...أوغندا ،فلسطين، الارجنتين ، بلد يحمي المضطهدين اليهود وكفى .
اليوم وفي الوقت الحاضرمن يضطهد من في أوروبا وأميركا ؟
سألت نفسي تقول ميا لرياض وهي تروي له قصة بحثها في التاريخ الإٍسرائيلي وتتابع:
نطق باحث بما يخالف القصة الإسرائيلية للمحرقة في باريس فخسر عمله وأصدقاءه ودخل السجن ...
بروفيسور أميركي نشر كتابا تحدث عن محرقة لكثير من الناس فقط فدخل السجن، و جامعته طردته ولم يوظفه أي مركز أكاديمي، فتعرض للإفلاس ومات من القهر والتشرد.
من يريد من الباحثين أن يحصل على نوبل عليه أن يظهر دعمه لحق المجتمع الغربي بسجن كل من يعلن العداء لليهود ، وهذا أمر جيد لنا بوصفنا يهوداً ولكنه يوضح أمرا هو بالأصل جلي .
اليهودي لم يعد يحتاج لوطن يحميه ، صار العالم كله حاميا لليهود، لا بل إن اليهودي صار في وضع أفضل بكثير من غيره في أوروبا وأميركا على المستوى العام .
من يجرؤ من مرشحي الرئاسة الأميركية على التعرض ولو بكلمة لليهود ؟ بل من يجرؤ من مرشحي الكونغرس أو البلديات أن يتعرض لليهود بكلمة ؟
صار العالم آمنا لليهود، والمكان الأقل أمنا في العالم لليهودي هو إسرائيل... يا للمفارقة .
كنت أظن أنّ الرب نصرنا على العرب في الثمانية والأربعين ، لأكتشف أنّ الرب لم يكن يحتاج ليتدخل إلى جانبنا، لأننا كنا نملك القوة الساحقة والعرب بجيوشهم مجتمعة لم يشكلوا أي تهديد حقيقي لا في وقتها ولا اليوم (من الناحية العسكرية البحتة) مئة وعشرون الفا من خيرة جنود الحلفاء في الحرب العالمية الثانية انتقلوا بسلاحهم إلى فلسطين وهزموا ثمانية وعشرين الفا من الجنود العرب عديمي الخبرة والتسليح ، ثم تدخلت الأمم المتحدة والدول الكبرى التي كانت تتحكم إداراتها بمعظم القرارات العربية فضلا عن أن الأنظمة العربية كانت كما اليوم متعاونة وعميلة للغرب .
حينها وصلت إلى قناعة أخلاقية ، وجودي في إسرائيل لم يعد يعطيني الإحساس بالانتماء، صار الشجر والبحر والجبال كل منها على حدة يصرخ بوجهي " اخرجي من هنا فليس هذا دارك "
صرت أصحو في الليل وأنا أصرخ ، لأني صرت أحلم بثلاث مئة مليون قتيل عربي دماؤهم تفيض علي من النهر وتغرقني .
كان في حينا امرأة مارقة، كانت تموت من السرطان ،لم يزعجها أحد ، لأنها كانت أيقونة من حرب الإستقلال كما كنت أسمي التطهير العرقي في فلسطين.
بطلة حرب إنشاء إسرائيل تحولت مع العمر إلى أكثر اليهوديات كراهية لإسرائيل، ولكنها بقيت هناك لكي تناضل من أجل الفلسطينيين. ربّت أبنها بوصفها أماً عازبة وزرعت في نفسه وعقله حب العدالة . كبر ليصبح سينمائيا، وفيلمه الأول كان عن مأساة المخيمات الفلسطينية ، أما هي وعلى الرغم من مرضها كانت تذهب كل يوم إلى جنين لكي تعلم الأطفال المسرح والموسيقى .
ذهبت معها إلى مخيم جنين وبقيت فيه عاما كاملا .خرجت بعدها منه إلى السجن الإسرائيلي بتهمة مساعدة الإرهاب، ثم إلى فرنسا ولن أعود أبدا إلا لأناضل في جنين وفي غير جنين هذه قصتي يا رياض فهل هناك احتمال جاسوسة